كتابات الموقع > حسب العنوان > أوراق عمل> اوراق عمل: الخيار الأوراسي ومعضلة الأمن في غرب أسيا - كانون الاول 2016
اوراق عمل: الخيار الأوراسي ومعضلة الأمن في غرب أسيا - كانون الاول 2016
د. حسام مطر

منطقة غرب آسيا تشمل بنحو ما أغلب الشرق الأوسط، واستخدام المصطلح مقصود كما يتضح في نهاية المقال*. يشكل موضوع الأمن والاستقرار في غرب آسيا سؤالاً ملحًا وحرجًا في واحد من أكثر الأقاليم فوضويةً واضطرابًا في العالم. تعزز الفوضى من "معضلة الأمن" ((security dilemma بسبب تزايد الريبة والشك لدى اللاعبين السياسيين بما يطلق دينامية من السباق المحموم للتسلح والقوة فكلما قام لاعب سياسي بجهد عسكري ولو دفاعي اعتبار اللاعب الآخر هذا الجهد تهديدًا له وحاول حشد المزيد من موارد القوة لموازنة خطوات الطرف الأول الذي سيرى بدوره في ذلك تهديدًا فيعمل على تعزيز أمنه مجددًا وهكذا دواليك.
 تُعتبر هذه المعضلة من أبرز العقبات التي تعترض اقامة نظام أمني مستقر في غرب آسيا. والخروج من هذه المعضلة يستلزم بناء مجموعة ضمانات ذات صدقية وصمامات آمان تكسر هذه الحلقة المفرغة. تحاجج هذه المقالة أن القوى الأوراسية الفاعلة قادرة على التصدي لهذا الدور الذي لا بد منه، وهو ما يمكن تلمس بداياته في غرب آسيا خلال السنوات الاخيرة. علمًا أن القوى الاقليمية في غرب آسيا والقوى الاوراسية تمتلك مصالح متبادلة للتعاون في إطار تأسيس نظام إقليمي يؤمن الاستقرار في غرب آسيا. كما أن هذا الدور للقوى الأوراسي يستدعي من العالم العربي وتركيا وايران اعادة بناء او اكتشاف المكون الآسيوي في هويتها والخروج من الذهنية "الشرق أوسطية".
إن بناء وإدارة أي نظام إقليمي في غرب آسيا لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار صعود "لعبة الجيوبولتيك" في أوراسيا حيث تحاول الولايات المتحدة منع ظهور قوة اقليمية مهيمنة داخل هذا المجال واحتواء القوى الصاعدة. يؤدي صعود هذه "اللعبة" في إحد نتائجه إلى تصاعد اهتمام القوى الأوراسية الكبرى، الصين وروسيا، بمنطقة غرب آسيا حيث الانكفاء النسبي للدور الأميركي لحساب أدوار اللاعبين الإقليميين. على أننا في المقابل لا نتجاهل إمكانية حدوث توترات متزايدة داخل المجال الأوراسي قد تنعكس سلبًا على غرب آسيا، ولذا لا بد من توفير صمامات آمان ذاتية للأقليم في نهاية المطاف.
إن تطور دور القوى الأوراسية، بالتحديد الصين وروسيا، في منطقة غرب أسيا قد يحفز التوازن والاستقرار داخل المنطقة، وهو دور يتكامل مع جهود قوى المقاومة في درء الخطر الإرهابي التكفيري وخلق بيئة كابحة للأطماع الصهيونية، وذلك لأسباب عدة منها: إشغال جزء من الانكفاء الأميركي ولأنها قوى لها مصلحة في الإستقرار الإقليمي ولا تمتلك نوايا توسعية بالمعنى الإمبريالي. وتشكل السياسات الأميركية أبرز محفزات الفوضى والحرب في المنطقة باعتبارها إما عوارض جانبية للسياسات التوسعية الأميركية أو نتائج متعمدة لهذه السياسات بغية استنزاف القوى الفاعلة وإعادة تشكيل خارطة النفوذ والتوازنات. ربما أدى الانكفاء الأميركي إلى ظهور الفوضى على المدى القريب إلا أنه يشكل فرصة على المدى البعيد لاستعادة دول المنطقة لقرارها والتحول نحو سياسات عقلانية لا سيما مع تطور أدوار القوى الأوراسية الوازنة آنفة الذكر.  
تُبدي القوى الإقليمية انفتاحًا متزايدًا على القوى الأوراسية مثل الصين وروسيا، وكذلك ألمانيا إن قررت أو دفعتها واشنطن لتعميق دورها الأوراسي بفعل سياسة الانكفاء والانعزالية. هذا الانفتاح من القوى الاقليمية ذات الوزن الفاعل سيشكل حافزًا للقوى الأوراسية لتوسعة وتشبيك متزايد لمصالحها الجيواستراتيجية والاقتصادية في المنطقة وذلك من منطلق ندّي ومتوازن. ويمكن لقوى المجال الأوراسي الوازنة أن تشكل شبكة أمان وقناة اتصال وتبريد تُسهم في خفض مستوى العنف وإطلاق عملية لبناء الثقة المتبادلة ورعاية التسوية السياسية، الا أن ذلك يستدعي انتقال القوى الإقليمية من ذهنية اللعبة الصفرية. وهو انتقال ستحفزه التجارب المرهقة خلال السنوات الاخيرة، فالحرب تصنع الدول وعقلانيتها على السواء.
إن الخيار الأوراسي لم ينضج بعد ولذا يمكننا المساهمة في تطويره من خلال فهمنا لأهدافنا ومصالحنا وظروف المنطقة، والمساهمة في النقاش حوله مع القوى الأوراسية. وننطلق هنا من فرضية أن الجغرافيا هي مجرد منتج لمخيلتنا ويعاد بناؤها اجتماعيا. أي إننا بحاجة إلى جهد لإعادة بناء هوية وقيم مشتركة مع عمقنا الآسيوي من دون ذوبان، فالدول بحسب النظرية البنائي (constructivism) قادرة من خلال إعادة بناء معنى الأفكار والمعايير التي تحكم النظام الدولي والاقليمي على أن تُشكل تصرفات هذا النظام. من هذا المنطلق دأب الإمام السيد علي الخامنئي على الدعوة إلى استبدال مصطلح غرب آسيا عوضًا عن "الشرق الأوسط". وقد عُقد مؤخرًا مؤتمر "طهران الأمني الأول" حول النظام الأمني الإقليمي لمنطقة غرب آسيا كترجمة لهذا التوجه.  
 بالتالي يمكن البدء بعملية بناء هوية أوراسية مشتركة تماثل ما قام به الاوروبيون والاميركيون في بناء هوية أطلسية مشتركة. فالأفكار والقيم عندما يعاد تشكيلها يمكن أن تعيد تعريف وتحديد طبيعة البنى المادية التي تعود بدورها لتأثر في تلك الأفكار والقيم. والبنائية قادرة على شرح التغير والتحول في العلاقات الدولية وتقديم بدائل وفق ما ينبغي أن يكون بعكس المدرسة الواقعية التي تكتفي بتفسير الواقع كما هو والتي تتعامل مع مفاهيم العلاقات الدولية باعتبارها امرًا ثابتًا.
وذلك أن البنائية لا تنطلق من المصالح، مثل النظريات التقليدية في العلاقات الدولية، بل من الأفكار والقيم التي تُشكل المصالح القومية.  ومن خلال ذلك يمكن لدول وقوى المنطقة إعادة تعريف مصالحها بما يتناسب مع كون هذه المنطقة هي "غرب آسيا" وليس "الشرق الأوسط". هنا تظهر مسؤولية النخب ومراكز القرار في تقديم خطاب جديد يبث قيمًا وأفكارًا تعزز الهوية الاسيوية للمنطقة وتظهر عمق صلاتها ومصالحها من الأمن الى الثقافة مع العمق الاوراسي. إن العولمة النيوليبرالية والتحالف الاطلسي ليسا قدرًا بل إنهما يتعرضان حاليًا لتحدٍ داخلي غير مسبوق يهدد شرعيتهما واستمراريتهما. هذه ليست دعوة للقطيعة مع الغرب ولا ذلك ممكن حتى، بل دعوة للسعي لتنويع الخيارات وفحص البدائل وبناء مسارات مع القوى الصاعدة في النظام الدولي.
 لا بد من تعزيز الحوار والتواصل مع القوى الأوراسية الوازنة وبناء جملة من المفاهيم والقيم المؤسسة وهو جهد ينبغي أن يشمل المستويات الرسمية وما دون الرسمية في آن واحد. هذا الجهد في صياغة هوية مشتركة مع المجال الأوراسي لا بد أن يكون متبادلًا بين قوى غرب آسيا والقوى الأوراسية. من شأن مساهمة قوى غرب آسيا في هذا الجهد أن تضمن أخذ مصالحها ودورها بعين الاعتبار.
وتتحمل القوى الإقليمية في غرب آسيا مسؤولية خلق مناخ إقليمي يحتضن الفكرة الأوراسية كما تراها، وهذا ما سيسهم في رسم حدود تدخل القوى الاوراسية ومنعها من استخدام المنطقة للتنافس ومساعدتها على صياغة اليات للتعاون والشراكة فيما بينها. إن ذلك يسهم في تفادي تهديدين محتملين لا بد من أخذهما بعين الاعتبار بناءً على التفكير بمنطق السيناريو الأسوأ: الأول، أن تتجه القوى الأوراسية نحو منطق الهيمنة داخل غرب آسيا، أو أن يتحول الإقليم إلى ساحة صراع بين القوى الأوراسية. قالت شاعرة أميركية يومًا: "سفينة تتجه غربًا وأخرى شرقًا بذات الرياح، فما يحدد مسار السفن هي الأشرعة لا العواصف"، فهل نعدل أشرعتنا؟

--------------------------------
* باحث في العلاقات الدولية
* ملخص ورقة قدمت في مؤتمر طهران الأمني الأول – كانون الأول 2016


Tags:



  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي