كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات | تعيين الحدود البحرية للبنان / د. محمد طي - 25 آذار 2021
مقالات | تعيين الحدود البحرية للبنان / د. محمد طي - 25 آذار 2021
الدكتور محمد طي*

من مقتضيات سيادة الدولة وسيطرتها على مواردها أن ترسم حدودها البريّة والبحريّة والنهريّة. وبالنسبة إلى لبنان أصبح الأمر ملحًا أكثر بعد اكتشاف وجود المواد الهيدروكاربورية من نفط وغاز في المنطقة الاقتصادية التابعة لكل من لبنان والدول المجاورة، وبعد أن عبّر العدو عن مطامعه بحصتنا في المنطقة الواقعة بين مياهنا ومياه فلسطين المحتلّة. فما هي الطرق الممكنة لتعيين هذه الحدود؟
قبل البدء بصلب الموضوع لا بدّ من إيضاح بعض المصطلحات لغير الاختصاصيين.
فالبحر الإقليمي mer territoriale هو اليوم الشريط البحري الممتد من أدنى مستوى الجزر قرب الشاطئ (راجع قرار محكمة العدل الدولية حول المصائد النرويجية بتاريخ 18/كانون الأول/ ديسمبر 1951 ص 128) إلى مسافة اثني عشر ميلًا بحريًا.
والمنطقة المتاخمة:zone contigue ، وهي الشريط البحري الملاصق للبحر الإقليمي حتى مسافة حددتها بعض الدول بـ 12 ميلًا أيضًا، ولدولة الشاطئ في هذه المنطقة بعض الصلاحيات على السفن الأجنبية.
والجرف القاري plateau continental: continental shelf، وهو من الناحية الجغرافية المنطقة ذات الانحدار الخفيف الممتدة من الشاطئ باتجاه أعالي البحار وصولًا إلى الانحدار القوي حيث تبدأ الأعماق،
(Charles Rousseau, droit international public Sirey 1980 p 427. t.4)
ومن الناحية القانونية حددتها المادة الأولى من اتفاقية جنيف (29 نيسان/إبريل 1958) بـ "أنها أرض البحر وما تحتها من مناطق تحت البحر ملاصقة للشواطئ دون أعالي البحار حتى عمق 200 متر أو بما يتجاوزها حتى حدود النقطة التي يسمح فيها العمق باستخراج الموارد الطبيعية لهذه المناطق".

المنطقة الاقتصادية الخالصة La zone économique exclusive
وهي منطقة بحرية ملاصقة للبحر الإقليمي تمارس فيها دولة الساحل صلاحيّات محصورة بها دون غيرها من الدول فيما يخصّ الموارد الطبيعيّة، وكان يأتي الصيد في مقدّمها. إلاّ أنّه بموجب اتّفاق مونتيجو باي (اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982) أصبحت الحقوق تطال أيضًا الموارد الطبيعيّة الأخرى. وليس لدولة الشاطئ أن تمنع الدول الأخرى أو تقيّد نشاطها إلا في هذه المجالات ولأغراض الاستكشاف أو الاستغلال أو لأغراض بيئية. راجع
(P. Daillier et A. Pellet, Droit international Public, L.G.D. J, 2002, P 1180(.
أما فيما يخصّ عرض هذه المنطقة، فللدولة أن تحدّده بإرادتها المنفردة، وحدّها الأقصى 200 ميل بحري، كما ذكرنا، إلاّ إذا اصطدمت بتحديد دولة مواجهة لمنطقتها، دون أن تتسع المسافة بينهما للتحديدين، كأن تنقص المسافة مثلًا عن 400 ميل (200 ميل لكل منهما).


تعيين الحدود البحرية بين دولتين متجاورتين
إلا أن هذه المناطق لا تكون الدولة دائمًا طليقة اليد في تحديدها، لا سيما إذا ووجهت بدول مقابلة أو ملاصقة، حيث تصبح الأمور بين هذه الدول خاضعة للقانون الدولي وليس الداخلي (راجع القرار المتعلق بالجرف القارّي بين ليبيا وتونس، 24 كانون الثاني/يناير 1982).
فإذا كانت الدولتان متجاورتين، فالحل يأتي نتيجة التفاوض فيما بينهما (راجع Rousseau op.cit.3 p 265 et 266)) وإن لم تصل المفاوضات إلى نتيجة أو إذا تعذّرت، فيمكن اللجوء إلى التحكيم الدوليّ أو إلى القضاء الدوليّ. وقد تبنّت محكمة العدل الدولية طرقًا لتعيين الحدود وكان أبسطها اعتماد الخط الوسط، إلى جانب حلول أخرى.
أ-الخط الوسط (Médiane)
وهو الخط الذي يبدأ من نقطة تلاقي الحدود البرّيّة مع البحر ويسير باتّجاه أعالي البحار بحيث تكون كافّة نقاطه على مسافة متساوية من نقطتي تعليم (repères) متناظرتين على كل من ساحلي الدولتين: راجع
(Jean Combacau et Serge Sur, droit international public montchrestien, 2009. P. 424).

إلا أن اعتماد هذا الخط قد يصطدم بثلاثة استثناءات:
1.    أن تكون هناك اتّفاقات خاصّة ببعض مناطق البحر.
2.    أن تكون هناك حقوق تاريخيّة لأيّ من الدولتين على مناطق معيّنة (مصائد أو غيرها)
3.    أن يكون الواقع الجغرافيّ للشواطئ ممّا يصعب معه تصوّر هذا الخط.
ب- المعايير المتعددة
عندما يكون شكل الشواطئ معقدًا، تؤخذ بعين الاعتبار معطيات عديدة، بهدف أن تؤدّي إلى حلّ عادل (المرجع نفسه) وهذا ما كرّسته محكمة العدل الدوليّة في عدد من قراراتها لا سيّما الأخيرة، كما في قرارها بشأن تعيين الحدود البحريّة في خليج مين (Maine) بين الولايات المتّحدة وكندا بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 1982، والحدود البحريّة بين الكاميرون ونيجيريا بتاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر 2002، والحدود البحريّة بين الهندوراس ونيكاراغوا بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2007، والحدود في البحر الأسود بين رومانيا وأكرانيا بتاريخ 3 شباط/فبراير 2009.

الجُزُر
تعرّف المادة 121 من قانون البحار الجزيرة بأنّها "رقعة من الأرض متكوّنة طبيعيًّا ومحاطة بالماء وتعلو عليه في حالة المدّ".
وهكذا فهي تختلف عن تكوينين طبيعيين، وهما:
- النتوءات التي تغمرها المياه في حالة المدّ وتنحسر عنها في حالة الجزر (م13).
des hauts-fonds))
- الصخور الصغيرة التي لا حياة فيها.
فالجزيرة تمتلك بحرًا إقليميًّا ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة وجرفًا قارّيًّا تحدّد كما مثيلاتها الخاصة بالبرّ.
أمّا النتوءات المذكورة فيعتدّ بها لتحديد خطّ الأساس لقياس البحر الإقليميّ لبرّ أو لجزيرة في حال كانت كلّيًا أو جزئيّا ضمنه، أما إذا كانت خارجه فلا بحر إقليميًّا لها. وبالطبع لا منطقة متاخمة ولا جرف قارّيّ.
وأما الصخور فإنّ الشروط القانونيّة التي تسمح بوصفها كذلك بالمعنى المقصود في القانون الدوليّ، فيجب إن تقوّم بشكل موضوعيّ، فإذا كان عنصر بحريّ ما لا يتمتّع بإمكانيّة موضوعيّة لاستقبال نشاط اقتصاديّ أو سكن بشريّ، لا يمكن أن يكون له منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ (م121/3).
لكن ما المقصود بالسكن البشريّ والحياة الاقتصاديّة؟ هاتان المسألتان يجب أن تدرسا بالمعنى الكيفيّ والزمنيّ. ف"السكن البشريّ، كما يرى روبرت كولب: "يجب أن يسمح بنفسه بالإقامة الدائمة لمجموعات اجتماعية منظمة، وبالتالي تكون ذات أهمية ما" . وترى محكمة التحكيم الدولي أنه" يجب أن يناسب (السكن) مجموعة من الأشخاص ويلبي حاجاتها الخاصّة لمدّة غير محدّدة . أمّا "النشاط الاقتصاديّ الخاصّ" فيعني القدرة بالنسبة لسكّان العنصر البحريّ أن يقوموا بنشاط اقتصاديّ مستقلّ، بمعنى ألاّ يكونوا معتمدين كليًّا على الخارج". كما أنّ النشاط يجب ألاّ يقوم فقط على نشاطات استخراجيّة . ولا يعتد بمشاريع تقام عن سوء نية ... بهدف وحيد يتمثل بتحويلها أو اتخاذ أي تدبير مصطنع بمناسبة وجودهم بنيّة حرف نتائج الفقرة الثالثة من المادة 121 . فلا تغيّر في الأمر شيئًا أن يحاول العدوّ أن يظهرها على غير حقيقتها بإقامة منشأة ما عليها.
هذا، وكما استنتج المحكّمون فيما خصّ النزاع بين الصين والفيليبين حول جزر سبراتلي، فإنّ الجزر التي لا تقوم فيها حياة بشريّة أو نشاط اقتصاديّ لا تتمتّع بمنطقة اقتصادية خالصة ولا بجرف قاري.
أمّا بخصوص رسم خطّ الحدود البحرية حال وجود الجزر أو النتوءات التي تظهر في البحر إبان الجزر وتختفي عند المد، فهي تمتلك بحرًا إقليميًا. فقد قضت محكمة العدل الدولية في عدد من القضايا أن يرسم خط الوسط أو منصف الزاوية bissectrice انطلاقًا من نقطة الحدود على الشاطئ وصولًا إلى نهاية المنطقة الاقتصادية الخالصة، ثم يصحح عند وجود جزيرة فيلتف حول بحرها الإقليمي ليعاود مسيره حسب رسمته الأساسية . كما في الرسم رقم 1 الذي يبيّن الحدود البحريّة بين هندوراس ونيكاراغوا.

الرسم رقم 1


في الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة
فإذا حاولنا تعيين الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، فما هو الحل؟
لا بدّ أوّلًا من الرجوع إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان في الخامس من كانون الثاني سنة 1995، على اتّفاقيّة 1982، ووضعت موضع التنفيذ في 29 تموز سنة 1994، ولكنّ العدوّ لم يصادق عليها، ولكنّها تلزمه في بعض أحكامها التي أصبحت عرفيّة خاصّة في مسألة تعيين الحدود. لكن لا بد من العودة إلى مصادر حقوقيّة أخرى تفصيليّة وعمليّة.
وهكذا فإن الحلول، كما رأينا، ليست دائمًا جاهزة أو موحّدة، بل تخضع إلى عدد من الاعتبارات. فقد ورد في قرار تعيين حدود الجرف القارّي بين ليبيا وتونس، أنّه تبقى الأولويّة للاعتبار الجغرافيّ: "في كلّ تقويم للمنهجيات واجبة الإتباع، كتقويم القواعد والمبادئ الصالحة للتطبيق، من المهمّ أن ننطلق من الوضع الجغرافيّ كما يظهر، وخاصّة من امتداد المنطقة المعنيّة وخصائصها".
وفي قضيّة تعيين الحدود بين الهندوراس ونيكاراغوا (8 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2007)، ينصّ القرار على أنّ المعايير، التي يجب أن تؤخذ بالحسبان أثناء المفاوضات، يمكن أن تشمل الصورة العامّة لشواطئ الأطراف ووجود أيّ ميزة خاصّة أو غير عاديّة، وبقدر ما يكون الأمر معروفًا وسهل التحديد، تؤخذ البنية الفيزيائيّة والجيولوجيّة والموارد الطبيعيّة... كما يؤخذ التناسب المعقول الذي يمكن أن يظهر ما بين امتداد مناطق الجرف القارّيّ العائدة لكلّ دولة وطول ساحلها المقيس حسب الاتّجاه العام لهذا الساحل، وما يمكن أن ينتج عن تحديد قائم طبقًا لمبادئ عادلة، على أن تؤخذ أيضًا بالحسبان النتائج الآنيّة والمحتملة لأيّ تحديد أخر للجرف القارّيّ في المنطقة نفسها.
أمّا إذا خلا الواقع من الاعتبارات التي يراعيها القرار، فيمكن الاعتماد على الجغرافيا مع بعض التصحيح حين لا تكون نتائج التعيين في بعض الحالات غير معقولة.
ففي قضيّة تعيين الحدود بين الولايات المتّحدة وكندا على خليج مين Maine اعتمدت المحكمة على معايير متعدّدة وركزت على الجغرافيا مع بعض التصحيح، لمّا رأت أن بعض النتائج غير معقولة، فقد جاء في القرار: "إنّ الأفضليّة التي لا بدّ منها هي للمعايير التي تستجيب بشكل أفضل، بطبيعتها المحايدة، لتحديد متعدّد الأغراض (Polyvalent)، فعلى المحكمة أن تتّجه في الدعوى الحاضرة إلى معايير ترتبط بالجغرافيا.. غير أنّه من الواجب إجراء تصحيحات لبعض النتائج التي يمكن أن يكون تطبيقها غير معقول" (راجع الفقرتين 195 و196 من القرار).
وإذا كانت الجغرافيا هي الأساس في عمليّة التحديد، فهذا يفرض علينا أن نتفحّص ذلك في مسألتنا الحاضرة،  
وفي الجغرافيا يبقى ممّا يمكن اعتماده في موضوع الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة إمكانيّتان: خط الوسط (Médiane) وحل المعايير المتعددة.
لاحظنا أنّ الحل المؤدّي إلى نتيجة عادلة حسب اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982، والذي طبّقه اجتهاد محكمة العدل الدوليّة، كان يأخذ بعين الاعتبار معطيات جغرافيّة تتعلق بشكل السواحل في كلّ بلد، هل هي شبه مستقيمة أم هي مكوّنة من مقاطع (Segments) متمايزة؟ (راجع قرار تعيين حدود الجرف القاري بين ليبيا وتونس الفقرة 75)، وهل هناك من مناطق نتوءات صخريّة des hauts-fonds)) في البحر؟ وهل هناك انعطافات حادة في شاطئ أيّ دولة باتّجاه شاطئ الدولة الأخرى؟ وهل من حقوق تاريخيّة؟ وهل من اتّفاقيّات؟ ...
إنّ كلّ هذا غير وارد في المسألة التي نحن بصددها (مع التحفّظ لجهة صخرة تخليت، (كما سنرى)، يبقى اعتماد خطّ الوسط.
إنّ خط الوسط (Médiane) بين لبنان وفلسطين يبدأ من نقطة الحدود عند الناقورة ويتّجه غربًا وتكون كلّ نقاطه متساوية المسافة (équidistants) عن نقطتي علام (Repères) تعيّنان على ساحل كلّ من الدولتين.
إلاّ أنّ العدوّ يطرح ثلاثة أمور: الاتّفاقيّة مع قبرص، تعيين نقطة بداية الخطّ الوسط، "جزيرة" تخليت.
أ‌-    بالنسبة إلى الاتّفاقيّة مع قبرص، والتي لم يبرمها لبنان، كما سنرى، لا يمكن العدوّ التذرع بها لأسباب منها:
1-هي اتّفاقيّة بين دولتين ولا شأن لطرف ثالث بها.
2- اعتبرت الاتّفاقيّة أن النقطة 1 غير نهائيّة، ويمكن مراجعتها بناءً على معطيات خريطيّة أكثر دقّة.
3- أن الخط الرابط بين رأس الناقورة والنقطة 1 ليس الخط الوسط المتعارف عليه.
لذلك طالب لبنان باعتماد الخطّ رأس الناقورة-النقطة 23، ما يعيد إلى لبنان مساحة 836 500 كلم2 للبنان و360 كلم2 للعدوّ، لكن رفض الاقتراح.
ب- بالنسبة لنقطة بداية الخطّ الوسط، كان العدوّ قد أزاح هذه النقطة عشرين مترًا إلى الشمال داخل لبنان وأقام منشأة أسماها Rock Hanicra، ليمنع الجانب اللبنانيّ من الوصول إلى الموقع الأصليّ لنقطة الحدود B1 التي يصبح الشاطئ الفلسطينيّ، انطلاقًا منها مكشوفًا حتّى حيفا.
وبمناسبة طرح العودة إلى المفاوضات بخصوص الترسيم طرح لبنان قصّة إزاحة النقطة B1، وراح يطالب الرجوع إلى الموقع الأصليّ للنقطة المذكورة B1، ما يعيد إليه مساحة حولي 2000 كلم2 بدلًا من 836 كلم2.
ج- وأما ما يسمّيه "جزيرة" تخليت، فلا بدّ من تفنيد ادعاءاته بشأنه، فهذه "الجزيرة هي صخرة صغيرة وليست جزيرة.

صخرة تخليت
تخليت هي عنصر بحريّ يبعد 800 متر عن الشاطئ الفلسطينيّ (رأس الناقورة).
يدّعي الصهاينة أنّ  تخليت جزيرة ولها مركز الجزيرة القانونيّ، بمعنى أنّ لها مياهًا إقليميّة ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة...إلاّ أنّنا في ضوء القانون الدوليّ نرى أنّها صخرة، مهما كان حجمها، فقد رأت محكمة التحكيم الدوليّ  "أنّ "الصخرة" يجب أن تؤخذ بالمعنى الواسع وليس بالمعنى الضيّق الجيولوجيّ أو التعدينيّ. وبالتالي تذكّر المحكمة بأنّ "الصخرة" لا تتكوّن فقط من الحجارة، بل يمكن أن تتشكّل من موادّ أخرى".
ومن جهة ثانية فإنّ هذه الصخرة ليست مأهولة ولا حياة اقتصاديّة حقيقيّة فيها، وفي هذه الحالة لا يمنحها قانون البحار مركز جزيرة بمعنى الكلمة، فقد رأينا أنّ المادّة 121/3 من القانون تنصّ على أنّه "ليس للصخور التي لا تؤمّن استمرار السكنى البشريّة أو استمرار حياة اقتصاديّة خاصّة بها، منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ".
من هنا فإنّها لا تؤخذ بالحسبان في رسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة الخاصّة بلبنان. ولو كانت ممّا يعتدّ به بخصوص البحر الإقليميّ، لكان يجب أن ترسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة بلبنان دون أخذها بالحسبان. ومن ثمّ ينظر في مسألة البحر الإقليميّ. فإذا كان بحرها الإقليميّ يتراكب مع البحر الإقليميّ اللبنانيّ، فيحدّد بحرها لجهة بحرنا بما يتناسب مع أهميّتها، ويرسم على شكل نصف دائرة متّجهة نحوها، كما في الحدود البحريّة بين هندوراس ونيكاراغوا.
لكنّ ما نذهب إليه، لا تنطبق عليه الخريطة الواردة في الملحق رقم 11 للدولة اللبنانيّة (أنظر الرسم رقم 2)، حيث يبدأ خطّ الحدود بين نقطة الناقورة والنقطة (29) بطريقة غير مفهومة مراعيًا على ما يبدو صخرة تخليت، في البحر الإقليميّ، ثمّ يعود ليوازي الخطّ الواصل بين نقطة الحدود عند الناقورة والنقطة 23.

الرسم رقم 2
 

لكن يبقى السؤال: هل إن صخرة بطول بضعة عشر مترًا وعرض بضعة أمتار تتمتع ببحر إقليمي؟

تعيين الحدود البحرية بين لبنان وقبرص
لبنان وقبرص دولتان متواجهتان فكيف يتمّ تحديد الخط الفاصل بين المنطقتين الاقتصاديّتين الخالصتين التابعتين لكلّ منهما؟
لا بدّ أوّلًا من الرجوع، مرّة ثانية، إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان، كما رأينا، وكانت قبرص صادقت عليها في 12 كانون الثاني سنة 1988، وهكذا أصبحت الدولتان ملزمتين بهذا القانون. لكن يتبيّن من الخريطة أن المنطقة الاقتصاديّة، التي ترجّح الاحتمالات احتواءها على الهيدروكاربون (الغاز)، والتابعة للبنان، وتلك التابعة لقبرص متطابقتان، على الأقل، في القسم الأكبر منهما:
فكيف يتم التحديد ؟
تنصّ القوانين المتعلقة بالموضوع، (اتفاقية جنيف 1958، واتفاقية مونتيغو باي اتفاقيّة 1982)، على أن يتمّ الأمر بالتوافق بين الدولتين. فإذا فشلتا، فعليهما العودة إلى الحلول القضائيّة (محكمة العدل الدوليّة، أو التحكيم الدوليّ).
أمّا الأسس التي يمكن أن يبنى عليها الحلّ، إذا لم يكن هناك معطيات تاريخية أو خاصة، في المنطقة لأحدى الدولتين( حقوق صيد قديمة، اتفاقات...)، فيمكن أن تكون:
*خطّ الوسط ( Médiane)، وهو الخطّ الذي يبعد بمسافة متساوية في كل نقطة منه عن الشاطئين (équidistance).

إلا أن هذا الحلّ قد يكون استخدامه البسيط متعارضًا مع معطيات تعاهديّة، أو على درجة من الصعوبة ناتجة عن حقائق جغرافيّة أو جيولوجيّة. وهكذا يؤخذ بالحسبان ما يأتي:
1. طول الواجهات البحرية   
2.التشكّل العام لكل من الشاطئين، هل هناك تعرّجات كبيرة، أو هناك جزر...؟
3. البنية الفيزيائية والجيولوجية للجرف القاري، انكسارات في قاع البحر، أودية سحيقة...
 (راجع: P.Daillier A.Peller op.cit. PP  1189 et  1190 )
لم تطرح أي من تلك المعطيات بين لبنان وقبرص فيما يخصّ المنطقتين الاقتصاديّتين، وجرى الاتفاق بينهما على الترسيم على أساس الخط الوسط بتاريخ 17/1/2007. واستفادت الجهة اللبنانيّة من الاتّفاقيّة المصرية القبرصيّة في 17 شباط 2003.
في الاتّفاقيّة وضعت النقاط بين المنطقة اللبنانيّة والمنطقة القبرصيّة من الجنوب إلى الشمال من 1 إلى 6، على أن تكونا قابلتين للتعديل على ضوء ترسيم الحدود بين لبنان وفاسطين المحتلّة من جهة وبين لبنان وسوريا من جهة أخرى. ونصّت الاتّفاقيّة، بناءً على ذلك، في مادّتها الثالثة على أنه" إذا دخل أيّ من الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعيّن على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصّل إلى اتّفاق نهائيّ مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلّق التحديد بإحداثيّات النقطتين 1 و6".


لكنّ الحكومة التركيّة، المطالبة بحصّة لـ "دولة" قبرص التركيّة، ضغطت على الحكومة اللبنانيّة، فلم تعرض الاتّفاقيّة على مجلس النوّاب للمصادقة، كما تقضي المادة 52من الدستور. غير أنّ لبنان، عاد ورسّم حدود منطقته الاقتصاديّة الخالصة من جانب واحد، على أساس النقطة 23 بدلًا من النقطة 1، والنقطة 7 بدلًا من النقطة 6، وأودع الإحداثيات الأمم المتّحدة بتاريخ 14/7/ 2010.
في 17/12/2010، اتّفقت قبرص مع "إسرائيل" على تعيين الحدود البحريّة بينهما، متجاهلة المادّة الثالثة من الاتّفاقيّة المعقودة مع لبنان والتي تلزمها بالتشاور معه. وفي 12/7/2011 أودعت "إسرائيل" إحداثيّات منطقتها الاقتصاديّ الخالصة الأمم المتّحدة. ورسمت الحدود البحريّ مع لبنان على أساس خطّ من الناقورة إلى النقطة رقم 1. لكنّ لبنان رفض هذا التحديد واحتجّ لدى الأمم المتّحدة.
هذا وتبلغ المسافات المتساوية بين لبنان وقبرص ما يأتي:
في أقصى الشمال: 95،001 كلم.
من بيروت: 66،91 كلم.
في أقصى الجنوب: 133،33 كلم.

تعيين الحدود البحريّة بين لبنان وسوريا
تبدأ نقطة التحديد بين المياه اللبنانيّة والمياه السوريّة عند مصبّ النهر الكبير الجنوبيّ ويمتدّ الخطّ الوسط ليلتقي مع الـ الخطّ الفاصل بين المياه القبرصيّة ومياه كلّ من لبنان وسوريا.
لكن في أيّ نقطة من مصبّ النهر يبدأ الخطّ؟
في الأنهار الحدوديّة الصالحة للملاحة تتكوّن الحدود من تاولوك النهر، أي تيّاره الأقوى اندفاعًا وهو الذي يعلو الخطّ الأسفل في أرض النهر. أمّا في الأنهار غير الصالحة للملاحة، فيؤخذ منتصف مجرى النهر، وهكذا فبين لبنان وسوريا يجب أن تؤخذ نقطة انطلاق خطّ الحدود البحريّة من منتصف النهر الكبير الجنوبيّ.
أمّا بشأن سير الخطّ، فهناك مجموعتا جزر على الجانبين يجب النظر في تأثيرهما:
- في الجانب اللبنانيّ، مجموعة الجزر مقابل طرابلس كبراها جزيرة الأرانب ومساحتها حوالي 0،188 كلم2، وتبعد عن طرابلس حوالي 5و5 كلم. وهي غير مأهولة، وليس لها إمكانات اقتصاديّة خاصّة، وبالتالي لا تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة.
- في الجانب السوريّ، مجموعة جزر كبراها جزيرة أرواد، وتبلغ مساحتها حوالي 0،20 كلم2 وتبعد حوالي 3 كلم عن شاطئ طرطوس، هي جزيرة مأهولة. لكنّ صغر حجمها يمكن، في نظرنا، ألاّ يسمح بأن تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة.
وهكذا، فمن نقطة الانطلاق على الساحل، يسير الخطّ مشكلًا الخطّ الوسط Médiane، أو منصّف الزاويّة bissectrice المتكوّنة من التقاء خطّ الاتّجاه العامّ للشاطئ السوريّ مع خطّ الاتّجاه العامّ للشاطئ اللبنانيّ. وصولًا إلى حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة التابعة لقبرص، وبذلك ترسم الحدود بين المنطقة الاقتصاديّة الخالصة اللبنانية والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة السوريّة.
أمّا البحران الإقليميّان لكلّ من البلدين، فيجب أن يتأثّرا بالجزر الموجودة على الجانبين. ولا بدّ هنا من إجراء القياسات الصحيحة والمقارنة للخلوص إلى التحديد الصحيح.
هذا من الناحية النظريّة، أمّا عمليًّا، فقد عيّنت سوريا حدود مياهها بالقانون رقم 28 لسنة 2003، الذي عدّلته صنة 2018، ويبدو من الخريطة أنه أُخِذَ بالحسبان وجود جزيرة أرواد بدليل الخطّ المائل نحو الجنوب المنطلق من نقطة الحدود الأساسيّة، ثمّ انعطافه غربًا (لم نحصل على تفصيل حدود مياهها مع مياه لبنان بعد)،




يظهر الخطّ اللبناني بدءًا من مصبّ النهر الكبير مائلًا إلى الجنوب الغربي ثم ينعطف باتجاه الغرب ليصل إلى النقطة 7. وتظهر النقطة 6 جنوب النقطة 7.
وعندما عيّنت السلطة اللبنانيّة حدود منطق لبنان البحريّة، تجاهلت ما يوصي به قانون البحار من التفاهم بين الدولتين المعنيّتين، وحدّدت الخطّ الفاصل بين لبنان وسوريّا من جانب واحد بخطّ يبدأ من مصبّ النهر الكبير وينتهي عند النقطة 7 بدلًا من النقطة 6.
هذا ويقدّر بعضهم المساحة المحصورة بين النقطتين ونقطة الانطلاق على الشاطئ بحوالي 580 كلم2.
أما المساحة الكلية للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان فتكون حوالي 22 ألف كلم2.

 

 

الخلاصة:
يمتلك لبنان منطقة اقتصادية خالصة يقصر مداها من الشاطئ حتى أعالي البحار عن المسافة المقررة في قانون البحار بـ 200 ميل بحري، لأن قبرص، الدولة المواجهة، تقع على مسافة أقصر من ذلك بحيث يبلغ متوسط بعدها البحري عن لبنان حوالي 210 كلم.
إلا أن المشاكل ليست قائمة بين لبنان وقبرص فقط، بل بين لبنان وسوريا وخاصة بين لبنان وفلسطين المحتلة.
أما بخصوص قبرص فالمشكلة ليس في أساس ترسيم الحدود بل في النقطتين الطرفيتين شمالًا وجنوبًا، وهما لا تؤثران على الحدود مع المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين العائدتين للبنان وقبرص، بل على حدود المناطق الخاصة بلبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.
فمع فلسطين المحتلة، هناك مفاوضات غير مباشرة، وعلى لبنان أن يتمسك خلالها بحدوده القانونية ولا يرضخ للضغوط من أي جهة أتت.
أما مع سوريا فالمطلوب إجراء مفاوضات مباشرة تؤخذ بها المعطيات العلمية بعين الاعتبار.
وبهذا نحفظ منطقتنا الاقتصادية الخالصة التي تزيد مساحتها عن ضعفي مساحة لبنان.


* نائب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي